صُبْحَ ليليَ الطويل، ورُقْيَةَ قلبيَ العليل، سلامٌ عليك..
"وصدرٍ أراحَ الليلُ عازبَ همِّه
تَضَاعفَ فيه الحزنُ من كلِّ جانبِ!"
سبحان ربِّ البيانِ الذي علمَ الإنسانَ!
إن الصدرَ يا نديمي كأنَّه بيتُ الهموم، وكأنَّ الليلَ راعٍ والهمومَ أنعامٌ سائمةٌ بالنهار يُرجِعُها راعيها "الليل" إلى مُراحِها.. ثم هي تنمو وتتضاعفُ.
ما الذي يجذبُ الهمومَ إلى مُراحِ الليل؟!
من الذي يَنبشُ في دفائنِ الصدرِ كلَّ ليلةٍ؟!
أفتقده يا ربِّي وكم من أنينٍ أصابني مُنذُ الفراق..
مكونةً من ثلاثةِ أحرُفٍ ولكنها تلوي الذراعَ؛
فاءُ فناءِ الروح، والقافُ قتالاً مع النفس، والدالَ داءُ خبيثٌ مكثَ بهذا الجسم….
حينما أقولُ لأحدهُم لقد فقدتُ ذاكَ العزيز، فهذا كفيل بأن يشرح بُركان الوجع، شعورُ الوحدة بين الجميع، مكسور تجدُ نفسك في كُلِ حينٍ.
كأنِّي من دونهِ أصبحتُ كالجليد، مُكبَّلة دائماً مثل السجين، من يُعيد لي الماضي الجميل؟
تناثرت أوراقُ السعادة مني، ومال الغُصن عنِّي، وأنت هُناك بالبعدِ ما تراكَ عيني.
هأنا الآنِ أقولها لكَ إن كان سيصلكَ حرفي أنني أشتاقُ إليكَ وأنتَ تعلمُ كيفَ لوعةُ الشوقِ تفعل وتقضي، حريقًا اشتعلَ بي ومن يُطفئهُ إلّّاك؟!!
فسلامًا لكَ حتى مطلع الفجر وعظم الأجر لقلبي ولروحي…
.
أفتَقِدهُ يا الله…أفْتَقِدُ كلماته الحنونة المَليِئةِ بِالرِّقَّةِ وَالعُذُوبةِ التي تَسْرِيْ في دَاخِليْ كَبلسَمٍ شَافِي لِتُزيلَ بِدفْئِها كُلَ وَشْائِجِ أحزَاني.
أفْتَقِدُ نَبرةَ صُوتِهِ، حِنِيَّتَه، ضِحكَتهُ الرَنانةَ العَفَويةَ التي تُعِيدُ تَرتيِب فَوُضْا۽َ قَلبيْ.
أفْتَقِدُ شُعاعَ لُطفِ عيناهُ المُتَّقِدَ بِالأملِ الذيٰ يُنيرُ دَربي المُتشِحَ بِالسَّواد.
أفْتَقِدُ تَفَاصِيلهُ الصَغيِرة، طِيبةَ قَلبِهِ الذي لمْ يَتلوّّثْ بِسُوادِ الحَياة.
أتشوَّق نظرات الحُبِ في عِيناهُ المْمزُوجَةِ بِاللهْفَةِ والاشتياق.
ظمئتُ إلى لِقائِه واستطار فؤادي المُتيَّمُ بِحُبِه لرؤيتهِ.
حَياتِي أصبَحْت مُوحِشة، كيف لا وهو هي!
جُبلتُّ أن سأراه، وسَيبتلُ الجَفن، ويَنبتُ زهرٌ يُعوض عَن غِيابهِ.
تَمتدُ الأيام والغِياب يَنهشُ قَلبي!
والصَبر أَمضى كومضٍ في أَحداقي؛ فجعلتُ أَبكي.. أفتقدهُ يا الله ودُون غَيري لَن تَحفلَّ وجهتي بهِ بَعد الآن!!!
أفتقده والفقدُ مَزّق نياطي، وأشعل النَّار بِفؤادي..
آهٍ يا الله كم تاقت نفسي لأحاديثه الطويلة، عيناه البنيتان الكحيلتان وبشرتهُ السّمراءِ..
لم يستوعب قلبي خبر فُراقه؛ فبقىٰ عالقًا في آخر يوم رأته عينه ولمسته يديَّ..
أفتقدُ أحاديثه الصباحية؛ التي بغيابها غابت الشمسُ بداخلي..
أفتقدُه وكلما شدّني الحنينُ إليه، شرعتُ لأُبحرُ بين أمواجِ أحاديثه، وأغرقُ في كُلِ حرفٍ وكُلِ نبرة، وفي النهاية أجدني مرمية على شاطىء الوجع أبكيه بكلِ حسرة..
أفتقدُ نفسي المرحة والضحكات التي تُزين تقاسيم وجهي عندما أتحدثُ إليه، والخِفة التي أشعرُ بها عندما يُشعرني بأنِّي عالمه الوحيد!
أفتقدُ نبضات قلبّي المُتسارعة عندما أرى كلمة أُحبّكِ، وأفتقدُ لحن اسمي حِينما تُجملهُ مُوسيقىٰ صوته..
أفتقدهُ يا الله لكني صابرةٌ على وجع الفُقد؛ علَّه يرجعُ إليّ راميًا قميصَ عودته؛ فيردُ بِبُشرَىٰ عودتهِ النّورَ إلىٰ قلبّي
لعلي أثقلتُ عليك..
آهةٌ طويلةٌ، ونَفَسٌ حارّ..
أُحِسُّ أني أُواري تحتَ أضلُعي شبحًا أسودَ، ما يزال يَمنعُني ويُوهِنُ عزمي ويكفُّ مِن خطواتي، وما يزالُ يُوسوِسُ إليَّ بجملته القصيرة القاتلة: لِمَ تَتَعَنَّى! أليس الأمرُ سواءً؟!
تقتلني قَولَتَه، وتجعلني أيامًا طَريحًا لا يُدرَى ما بي!
وربُّك المجيرُ من نداءاتِ اليأسِ.
إن الأمرَ يا سلوةَ فؤادي ليسَ سواءً!
"فليسَ سواءً عالمٌ وجهولُ"!
وليس سواءً ساعٍ وَكَسولُ!
وليس سواءً باذلٌ وبخيلُ!
وليسَ سواءً صابرٌ وجَزُوعُ!
وليسَ سواءً ساكنٌ وهَلُوعُ!!
ليسَ كلُّ الناسِ سواءً، ولا درجاتهم واحدةً، فمنهم مُنحَطٌّ عن المعالي ومنهم مَرفوع!
وليس سواءً هانئٌ بوصالٍ ومُهَشَّمٌ بتباريحِ الشوقِ والفراق!!!
ونعوذ بالله مِن ضَغطةِ الإياس، على مكاظمِ الأنفاس….
هذا جانبُ مخيفٌ مِن جوانب الليل، لكنَّه إن كان كذلك تارةً، فإنه يكونُ تاراتٍ عُرسًا بهيجًا مُقمِرًا، تتلألأ فيه ألوانُ البشارة، وتتلاقى فيه أحاسنُ الأماني، وتتراقصُ بواكيرُ الآمال، ويجتمعُ فيه الشتيتان بعدما كانا "يظنانِ كلَّ الظنِّ ألّا تلاقيَا!"
وبالله حسنُ البلاغِ إلى محاسنِ الظنون..
دمْ بخيرٍ، ليلُك آنِسٌ بَهيج، ونهاركَ عَبِقُ الأَريجِ.
وسلامٌ عليك ما هبَّ نسيمُ الخريفِ اللطيف، الذي من أنفاسِك لَطُف، ومِن راحتَيك اغترَفْ… وآسفٌة إن أطلتُ عليك..
هُنا.. لا أيامَ أطويها، ولا أحلام أنساها، أُراقب عجلةِ الوقتِ تمضي مُنذ أربع سنواتٍ، وأرقب اللون البُرتقالي، علَّ يصير بستانًا، علَّ أصير أنا وتخضر أيامي..
أربع سنواتٍ تنفرطُ من حياتي، وتذرني هشيمٌ وريحٌ غاضبة تضرب المَرسى.
أربع سنواتٍ!
غزاني الشيب، وَوَهن العظم، وضعُف القلب، وازدادت كل الأوجاع وتاهت في الممراتِ آلامٌ وأجفانٌ، إلى أن صرتُ هأنذي، غريبة الوجهةِ، قليلة الحيلةِ، ضعيفة البنيان، خائرة القوى كليَّا!
لكنني في وسطِ كُلِّ هذه الغُربة، التي تلفحني وتقبضُ قلبي، أذكرك!
أتذكركَ منذ أن وعدت نفسي أن أكفّ عن العَد، وعيشَ إيماءاتِ الهواء، كأنها وردٌ وَجب عليَّ جَمعه، كي لا يَذبل، كي لا أذبل!
أُكرمُ وفادتك في كل مرةٍ أرى الحُب في الفعلِ، كُلما لمحت ظلًا مؤنسًا، ويدًا حنون، وغصنًا أدركه الذبول…
لا أحولُ عن عهدك، وإن حالت النجوم من ممارِّها.
ولا أزول عن ودِّك، وإن زالت الجبال عن مقارها.
بيننا عِصَمٌ لا تنقض، وذمم لا ترفض.
لي قلبٌ قريح، حشوُه ودٌّ صحيح.
وكبدٌ دامية، كلُّها محبةٌ نامية.
مودتك شعارُ ضميري، ومخالصتك أغلبُ الأحوالِ على قلبي.