14- "شرط الطَّبيب النَّاجح "
قال ابن القيم
في كتابه الطب النبوي عندما تكلم عن الطبيب الحاذق وذكر أنه يجب أن يراعى في علاجه
عشرين أمرًا كان منها :
" أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح
وأدويتها ، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان ، فإن انفعال البدن وطبيعته عن القلب والنفس
أمر مشهود ، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجها كان هو الطبيب الكامل
، والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب ، وكل
طبيب لا يداوي العليل بتفقد قلبه وصلاحه ، وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة وفعل الخير
والإحسان والإقبال على الله والدار الآخرة فليس بطبيب بل متطبب قاصر " .
إن غاية ما وصل
إليه طب الدنيا أنه يصف الدواء ، لكنه لا يضمن لك حتمية الشفاء ، أما دواء الآخرة فالله
هو الذي ضمن لمن تناوله تمام الشفاء ، ولو علم الناس ما للطاقة الروحية من فوائد علاجية
على الجسم والنفس لتخلوا عن استعمال كمية وافرة من الأدوية التي في معظمها لا تعالج
إلا الأعراض ، ولا تنفذ إلى الأسباب ، وقد كان سلفنا الصالح أدرى ما يكونون بذلك ،
فأرشدوا أطباء الدنيا إلى ما غاب عنهم من طب الآخرة ، وعلَّموهم أن راحة قلب للمريض
وسعادته لها أعظم الأثر في محاصرة داء الجسد ودفع بلائه.
قال ابن القيِّم
وهو يصف حال شيخه ابن تيمية :
" وحدَّثني شيخنا قال : ابتدأني مرض ، فقال
لي الطبيب : إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض ، فقلت له : لا أصبر على ذلك ؛
وأنا أحاكمك إلى علمك ، أليست النفس إذا فرحت
وسُرَّت قويت الطبيعة فدفعت المرض ، فقال : بلى ،
فقلت له : فإن نفسي تُسَرُّ بالعلم ، فتقوى به الطبيعة ، فأجد راحة ، فقال : هذا خارج
عن علاجنا "
" قلب يقلب المعركة ":...
قد يدخل قلبٌ المعركة فيقلب الهزيمة الساحقة نصرا
مبينا خاصة إن كان من نوع قلب أبي طلحة رضي الله تعالى عنه الذي شهد له النبي صلى الله
عليه وسلم : « صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل » .
صوته فحسب بألف
فكيف بسيفه؟! وهل بلغ هذا إلا بقلبه وما يحويه قلبه؟ وهل هذا إلا نتاج شجاعته وإقدامه
وثباته وإيمانه وهي كلها أعمال قلوب؟! رحمة الله عليه وكأنه يشرح بفعله معنى قول ابن
الجوزي :
" الشجاع يلبس القلب على الدرع ، والجبان يلبس
الدرع على القلب " .
ليدخل بذلك في
زمرة من عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :
« خير الصحابة
أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولا تُهزَم اثنا عشر ألفا
من قلة » .
ومعنى آخِر مقطعٍ
في الحديث : « ولا تُهزَم اثنا عشر ألفا من قلة » : أن هزيمة أي جيش إن بلغ هذا العدد
لا تكون بسبب قلته لكن بسبب قلوب جنوده ، فهل علمتم الآن سبب غثائية الأمّة وكثرة زبدها
وضعف قوتها ووهن عزيمتها وتبوئها ذيل الأمم؟
وفي المقابل : قد ينقلب قلب نصر الأمة هزيمة ماحقة
، فإن مرضا واحدا من أمراض القلب وهو الوهن كان كافيا لتسلط حفنة من اليهود لا تجاوز
ملايينها عدد أصابع اليدين على مقدَّرات أمّة فاق عددها الألف ومائتي مليون مسلم ،
إن قلوبنا هي سلاحنا الحقيقي في معركتنا الفاصلة مع العدو ، لذا كانت ولا زالت هي هدف
العدو الأساسي ومرمى سهامه الوحيد ، يبث فيها السم ليتفشى فيها الداء ؛ فتبقى دوما
طريحة فراش الشهوات والأمنيات ، وتترك بوابة الأمّة مفتوحة على مصراعيها لغارات العدو
بعد أن رفعت رايتها البيضاء مستسلمة.
ويعضِّد هذا قول
رسولنا صلى الله عليه وسلم : « صلاح أول هذه الأمّة بالزهد واليقين ، ويهلك آخرها بالبخل
والأمل » ،
وهي كما ترى ليست أعمال جوارح بل أعمال قلوب ، فاعلم
قدر قلبك وأعطه ما يستحق ,واعتن به يا غافلا عن أثمن ما يملك!! نصر الأمّة
في قلب وهزيمتها من قلب ، فأي القلبين قلبك؟!
"مستودع الأخلاق
والمشاعر" :_
إن قلب المرء هو
الذي يتحكم في أخلاقه ويكظم انفعالاته ويضبط سلوكه ويهذِّب الشارد من طباعه ، وهل تسكن
أخلاق الأمانة والوفاء والصبر والحلم والرحمة والعفو والصدق والعدل بيتا غير القلب؟!
ولذا قال الأحنف بن قيس :
ولربما ضحك الحليم
من الأذى ** وفؤاده من حرِّه يتأوَّه
ولربما شكل الحليم لسانه ** حذر الجواب وإنه لمُفوَّه
فحُسْن الخلق من حياة القلب ، وسوء الخلق من مرض
القلب أو موته ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ، ولذا فقد كان
قلبه أعمر القلوب بالحياة حتى أيقظ قلوب كل من كان حوله في حياته وبعد رحيله.
قال أبو حامد الغزالي
:
" القلب خزانة كل جوهر للعبد نفيس ، وكل معنى
خطير ، أولها العقل ، وأجلُّها معرفة الله تعالى التي هي سبب سعادة الدارين ، ثم البصائر
التي بها التقدُّم والوجاهة عند الله تعالى ، ثم النية الخالصة في الطاعات التي بها
يتعلَّق ثواب الأبد ، ثم أنواع العلوم والحكم التي هي شرف العبد ، وسائر الأخلاق الشريفة
الخصال الحميدة التي بها يحصل تفاضل الرجال ، وحُقَّ لهذه الخزانة أن تُحفظ وتصان عن
الأدناس والآفات ، وتُحرس وتُحرز من السُرَّاق والقُطَّاع ، وتُكرم وتُجَلُّ بضروب
الكرامات ، لئلا يلحق تلك الجواهر العزيزة دنس ، ولا يظفر بها -والعياذ بالله- عدو
" .
إن قلبا عزيزا
يمتلئ بالحزن سوف يرسل الأوامر إلى الوجه ليبتسم حتى لا يعلم الناس ما به من أذى ،
فإن علموا ما به ظلَّ متألما بِذُلِّ الشكوى محترقا بنار شفقة الناس عليه ، وهكذا كان
قلب العزيز أسامة بن منقذ حين قال :
نافقتُ قلبي فوجـهي
ضاحكٌ جذِل ** طلـق وقلبي كئيب مُكْمد باكِ
وراحة القلب في الشكوى ولذتها ** لو أمكنت لا تساوي
ذلة الشاكي
إن القلب والباطن هو من يضبط ويتحكم في الجوارح والظاهر
ليظهر أمام الناس ما يسمح به القلب فحسب ، ويأذن به ويرضاه ، واسمع مرة ثانية إلى قول
أسامة بن منقذ وتمثيله الجميل :
انظر إلى حسن صبر
الشمع يُظهِرُ ** للرائين نورا وفيه النار تستعِر
كذا الكـريم تراه ضاحكا جـذِلا ** وقلـبه بدخـيل
الغـم منفطر