الخميس، 18 مايو 2023

المُرُّ لابُدَّ تجرُّعه... و الشَّرّ لا غِنى عنه ... و العمرُ لا فرار منه...



أنا آخذُ الصِّدق من أفواهِ المواقف والأفعال؛ لا من مجرَّد الادِّعاء والأقوال! فَـكَم من قول قد كذَّبه صريحُ الفعل، و كم من دعوى مَحاها موقف صعب! وإنَّ غاية الصِّدق فيمن تكلَّم بِـلِسانه و شهدت على قوله أفعاله -وهم قلَّة-.
فإنَّ من شِيم الأصَلاء الوضُوح والمُكاشَفة في كُلّ شيء، نعم في كُلّ شيء!!
خاصّةً في المواقِف والآراء، مع مُراعاة جانب الأدَب طبعًا أثناءَ ذَلك، 
وإن قُلت سبَق أهلُ الصّراحة بالرّاحة فلست مُغالياً ولا مُجانباً للصّواب أبدًا.
كما لا أوجلَ عندِي من مُتردّدٍ، ولا أخوف من مُتخاذِلٍ!
المقصُود= إذا أردت الإطمِئنان النّفسِي والهدُوء الدّاخِلي كُن صَريحًا بأدَب ولو كُنتَ من أهلِ الباطلِ عند غَيرِك.
ولا تنسى أنَّ تفسير حديث المتكلم علىٰ غير حقيقة مراده لونٌ من الزور، وبناء أحكامٍ وتفاسير عليها خيانةٌ بعينه!
وهذا لعمري أمرُّ و أنكىٰ من اقتصاص جزءٍ من كلامه وعرضه!
من الحقائق التي يجهلها أكثر الناس ما قرَّره الإمام المناوي: «فأكْثر ما يُدْخِل الموحِّدين النَّار مظالم العباد»!!!
وأنَّ سُمعة المرءِ أبلَغُ من كلامهِ، وسبحان من جعل الوجه ترجمان لِما في القلب، والأفعال بُرهان عمَّا فيه… رُويَ عن عثمان ‏رضي الله عنه:: (ما أسرَّ أحد سريرةً إلاَّ أظهرها الله على صفحات وجهه، وفلَتَات لسانه)
السرائر جمع سريرة وهي ما يكتمه الإنسان ويَسُرُّه.
والإسلام أرشد ودعا إلى إصلاح السرائر وتنقية القلوب وإحسان الظنون، ونهى عن خُبث السريرة.
وقد قال تعالى عن المنافقين: 
(وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ)
ثم قال: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)
و نقاء السريرة هو خُلقٌ و ممارسة و اتّباع… ليس مجرد جملة عابرة.
فــباطن الإنسان سيظهر على صفحاتِ وجههِ عاجلًا أم آجلًا،
من يحمل الخير وحُسن الظَّن وطيب القلب لن يفيض منه إلّا الجمال والحُب،
وحامل السوء مهما تقنّع وتصنّع لابُدَّ للداخل أن يفيض للخارج؛ 
فـملامح وجه المرء هي من انعكاس داخله على خارجه!
[إنَّما يُبِينُ عن الإنسانِ اللِّسان، وعن المودَّةِ العَيْنان!]
في قصة يُوسُف عرف صاحباه في السجن أنَّه {من المحسنين} لقوة إخلاصه لله حتى ظهر ذلك على وجهه و جوارحه! واللهِ ما اجتهد مجتهد في إخفاء عمله إلا أظهر الله حُسْنَ سريرته ولو بانكباب الناس عليه! وكأنَّ الملامحُ تشفُّ عمَّا غصَّت بهِ النِّيَّة!
في تفسير آية ﴿إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ الرَّحمنُ وُدًّا﴾ من سورة مريم؛ يقول السعدي:: أي: محبةً و وداداً في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في القلوب وِدٌّ تيسَّر لهم كثير من أمورهم و حصل لهم من الخيرات و الدعوات و الإرشاد و القبول و الإمامة ما حصل.


وصلتُ لِمَا وصلتُ عليه من عمرٍ وقوة مُتباينة بتباين عافيتي البدنية المرتبطة مباشرةً بعافيتي الروحية والأصل فيها التدنِّي… لكنِّي ما زلتُ كما أنا منذ طفولتي، أسعدُ بالحروف النقية الصادقة و أخاف من الصدِّ و لا أقبل النقد إلَّا ممن يعرف بواطني و مفاتحي -ولا يوجد أحد-. مازلتُ لِعمري هذا أُحبُّ العطور والورد بل أعشقهُما! أُحبُّ أن أُهدىٰ ولو وردةً في يومِ ميلادي هذا.. أُحبُّ الملابس المورَّدة و ورق الجدارن المُزيَّنة بطبعات الوروود، وأثاث المطبخ وأدواته، وفُرش البيت! أُحبُّ أن أعيش وسط حقل من الورود وأن أُحاط بهم… لا أملك سبباً لحبِّي الغريب للورد والزهر وطبيعة خالقي الرحمٰن بديع الأكوان ﷻ… لم أشتري لنفسي يوماً وردة رغم شدة اشتياقي و حبِّي له، فأنا أؤمن بأنَّ الورد لا يُشترى بل يُهدى، وفي الصورة التالية أجمل باقة وردٍ وصلتني.. جربتُ أن أشتري نبتة "تُنبتُ" لي ورداً، لكنها لم تتأقلم مع شرفة بيتنا ولم تنمو… أنا من جنيتُ على نفسي، وأغلقتُ الأبواب كلها وأحكمتُ غلقها بكل قسوة في كل وجه كان بإمكانه أن يكون باب سعادة و جبر بعد صبر… لم أفهم نفسي يوماً لِمَ أختار الحزن إنْ كان عاقبة واردة -قد تحدث أو لا تحدث- لسعادة عارمة؟ لِمَ أتوقع الأسوأ؟ لِمَ أسلك طريق "المشي بجانب الحائط"؟ لم كل هذا الخوف من المشاكل؟ من هذه الهشَّة التي تكتب؟ أنا لم أعد أعرفني.. وأعرفُ أنَّه ما من أحدٍ يقرأُ كلامي وإن وُجِد فلن يفهمني…


 [تسلُّط البعض لا يمكـن حـدوثه إلَّا عن طـريق جُـبنِ آخـرين!]

‏شهورٌ تمرُّ وأنا قلِقةٌ من توافه الأشياء حتى أعظمها، شهورٌ تمرُّ وأنا أُحاول -وحدي تماماً- بِشتَّى الطرق أن أهدأ ولكن هذا لا يحدث فأظلُّ أغرقُ في قلقي.. متى أنجو؟؟
فقدتُ رغبتي بقراءة الكُتب، بالكتابة وحتى البُكاء، لا أودّ التواصل مع أحدّ ولا أشعر بأيّ رغبةٍ في مُخالطة الناس، كما لا يهمُني بتاتاً أن يُساء فهمي، لا شيءَ سِوى النوم (بلا مُنوِّمات ومُهدِّئات) والاستيقاظ على أملِ أنّ تمضي هذهِ الأيام.. انصَرمَ عامٌ آخر، أُحصي ما مرَّ فيهِ على قلبِي من المَشقَّةِ والبلاء، فأَقول إنِّي قد كَبُرت و سَبقتُ بنات عُمرِي بسنوات طِوال إلَى مَا تكُونُ عليهِ العَجائزُ مِن حِكمَةٍ و ثَبات، و رزانَةٍ بعدَ شتَات.. يغلُبُ عليَّ مَا يُمليهِ عقلِي في أحايينِ الحُزن، فأنطِقُ بما أعجَبُ له، و أُعامِلُ النَّاس بمَا يحارُونَ فيه.. ثُمَّ أُقلِّبُ ناظِري في هذَا الفُؤادِ الرَّهيف، فإذَا هُو طِفلٌ يتعثَّرُ في الكَلماتِ الطِّوال، و يُخدَعُ بمَظاهِر الجَمال، و يُمنِّي نفسَهُ بالخَيال..
ثُمَّ أرفَعُ عَيني إلى المِرآة، فأَرى شابَّةً تتمثَّلُ عُمرَها، لا تزِيدِ عليهِ ولا تنقُصُ مِنه، عينَاها مرسُومَتانِ بالكُحلِ، محدُودَتانِ بِه كمَا تحُدُّ التَّقوَى جُموحَ الهَوى، يتدفَّقُ الحياءُ بوجنتَيهَا تدفُّقَ بعثاتِ الحُبِّ الأولَى فِي قلوبِ العَذَارى، أمَّا فمُها فقدْ أودِعَت فيهِ بسمَةٌ أهدَأُ من نسماتِ الفَجرِ، و حديثٌ أعذَبُ من غَمغماتِ الرُّضَّع.. تقِفُ صامِتةً، والأُنوثَةُ في قالَبِها تنطِقُ عنهَا.. وفي كُلِّ لحظَةٍ تجرِي عليّ، أتخيَّرُ لِي عُمراً مِن الثلاثَة.. كُلّ عامٍ وأنَا أُجاهِدُ لأكُونَ بخَير! 
مرت أعوام عديدة، والطفلة البريئة الخجولة ظلَّت هناك لم تتغيَّر قَطّ!
كل الَّذي حصل أنَّ الطفولة التي كانت تتبدَّى على ملامحها الظاهرية في صغرها و البراءة التي كانت تُنير قسمات وجهها، انسحبت حينما كبرت من بعض ملامحها الخارجية و توارت في داخلها، في روحها سكنت، فلقد ظَلَّت الطفلة هي هي لم تتغير! 


[إن أشد ما يحتاج إليه الإنسان كتف تسع رأسه، وقلب يسمع همسه، و أمل يهزم يأسه، و يوم يُنسيه أمسه، و عين يُبصر فيها أُنسه؛ إنَّ أشدَّ ما يحتاج إليه الإنسان إنسان يجد عنده نفسه.] قرأتها قديماً وكلما مررت عليها أخرى أشعر بذات الشعور أول مرة!! لست على ما يرام، أردت قولها بطرقٍ عديدة، ولم يشعر ولن يشعر بها أحد..




تعلَّمت -بقسوة للأسف- ألَّا أُحكِمُ قبضتي في الدنيا على شيء، و بخاصة البشر، لا أُحكِم قبضتي على إنسان كائناً من كان! غالباً لأجله وقليلاً لأجلي!
كلُّ من يعرفني -صدق المعرفة- يعرف أنَّه مُحررٌ تماماً مِمَّا قد يُلزِم به إنسانٌ إنساناً آخر من توابع صداقة أو لوازم مودة. إنْ أَحْسَنَ فأهلًا و حُبّاً؛ و لن أجحد إحسانه ما حييت -إنْ قدَّرني ربي- ، وإن كانت الأُخرى فالهجر الجميل واعتزال الأذى كافينا.. أنا أُحِب من يُبادر ولا يُضيّع فُرصة لرفع الحَرَج عن غيره، وإذا تحسس ثِقَلاً أو عملاً بغير طيبة نَفس خَفَّف ما يمكن تخفيفه، هذا الإنسان الذي يضع نفسه مكان غيره؛ جانبه آمن.. ولا أُبغض مِثل من وظيفته في الحياة وضع غيره في زاوية ضَيّقة و إحراجه و تتبُّع عثراته ولا أظنّ مِثل هذا ينجو!

تعلمتُ أنَّ كارهُك يرى الابتلاء عقوبة، و مُحبُّك يراه نعمة؛ و تلك واحدة من فوائد الابتلاء، إذ يستظهر ما كانت تُخفيه الصدور، و كنت تراه في العيون، و تشعر به في لحن القول، و درجة التقدير، لكنك تمنع نفسك من التيقّن امتثالاً لقوله تعالى: {إن بعض الظن إثم}.
إنَّ الإنسان يقضي عمره مُفارِقاً ومُفارَقاً، وتأخذ منه أيامه قدر ما تُعطيه و ربما جَارَت!
يُصبح في نعيم الوصل و يُمسي وَحْرِ الهجر جمرة تَفتُّ كبده!
و تلك المجالس التي طالما كانت محلاً للأنس ينطفئ ضياها!
و تستحيل المُسامرة الطويلة إلى طيوف ليس له منها إلاّ رجع الصدى و حديث الذكرى!
و يتحوَّل التَّرنُّم البديع إلى هديل و شجى، و يصبح لارتداد الضحكات على مسمعيه أنّة حزينة، و تصير الجذوة المشتعلة إلى رماد يُذر ذرّاً!
 و تخبو الشمعة التي طالما حاول مداراتها من نهب الرياح؛ "فأحبب من شئت فإنك مفارقه"… و ما لا يُحكَى يُبكى...

هناك تعليق واحد:

  1. كلام جميل ونتمنى عودتك لنقرأ كلامك على تويتر

    ردحذف

مشاركة مميزة

ما الذي تفتقده البشرية يا تُرى؟