15- " بين الموتِ و الحياةِ "
قال تعالى : ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا
لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ
مِنْهَا ﴾ [ الأنعام : 122 ]
وهذا مثل ضربه
الله للذي هداه بعد الضلالة وشبَّهه بأنه كان كالميت الذي أحياه الله ، وجعل له نوراً
يمشي به في الناس مُسْتَضِيْئاً به ، فيميز بعضهم من بعض ، ويفصل بين أبيضهم وأسودهم وجميلهم
و قبيحهم ومن يعرف منهم ومن لا يعرف ، ويسير فلا يتعثَّر أو ينكب على وجهه ، ويعرف طريقه
بل يساعد غيره على معرفة طريقه : يرشد العميان ويهدي الحيران ، أهذا مثله مثل من بقي
على الضلالة المتخبط في الظلمة لا ينفك منها ولا يتخلص ؟!
ولكي تفهمه الفارق
جيداً بين الفريقين وترى التناقض الكبير والبون الشاسع بين طريقين ، فاسمع ما قاله زيد
بن أسلم والإمام السُّدِّي في تفسير هذه الآية :
" ﴿ فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ : عمر رضي الله عنه ،
﴿ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾ : أبو جهل لعنه الله " .
إنَّه الفارق بين
السماء والأرض ، لكن الصحيح أنها عامة في كل مسلم وكافر ، أو ضال ومهتدي ، ووصف الموت
هذا أحد عشرة أوصاف وصف الله بها قلوب الكافرين في القرآن.
قال الإمام القرطبي
:
" وقال أهل المعاني : وصف الله تعالى قلوب الكفار
بعشرة أوصاف : بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحمية
والإنكار ، فقال في الإنكار : ﴿ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾
[ النحل : 22 ] ،
وقال في الحميّة : ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا
فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ ﴾ [ الفتح : 26 ] ، وقال في الانصراف : ﴿ ثُمَّ انْصَرَفُوا
صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [ التوبة : 127
] ،
وقال في القساوة : ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [ الزمر : 22 ] ، وقال : ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ ﴾ [ البقرة : 74 ] ،
وقال في الموت : ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ
﴾ [ الأنعام : 122 ] ، وقال : ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾ [ الأنعام : 36 ] ،
وقال في الرين : ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ
مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [ المطففين : 14 ] ،
وقال في المرض : ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ [ البقرة
: 10 ] ،
وقال في الضيق : ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ﴾ [ الأنعام : 125 ] ، وقال في الطبع : ﴿ وَطُبِعَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [ التوبة : 87 ] ، وقال : ﴿ بَلْ طَبَعَ
اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : 155 ] ، وقال في الختم : ﴿ خَتَمَ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [ البقرة : 7 ] " .
وفي مقابل وصف
: ميت ؛ أطلق الله على كل من قُتِل جهادا في سبيله لفظ : حي ، بل حرَّم علينا أن نطلق
عليهم لقب أموات ، وما ذلك إلا لحياة قلبه ، فقال : ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [ آل عمران
: 154 ]
فنهانا سبحانه
أن نطلق على الشهيد كلمة : ميت ، فهو حي في حياته وبعد رحيله ، لذا قال النبي صلى الله
عليه وسلم عن طلحة بن عبيد الله وهو حي : « طلحة ممن قضى نحبه » ،
فالحي حي في حياته وبعد مماته ، وميت القلب ميت في
حياته وبعد موته ، وحياة قلب الشهيد توحي بها معنى كلمة شهيد والتي تعني أنه شهد على
الغيب حتى صار عنده شهادة ، ولأنه رأى بقلبه ما لا يراه الناس إلا بعد موتهم ؛ فأقدم
على التضحية بأغلى ما يملك ؛ كوفئ باستمرار إطلاق صفة الحياة عليه حتى بعد الموت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق