الخميس، 18 مايو 2023

المُرُّ لابُدَّ تجرُّعه... و الشَّرّ لا غِنى عنه ... و العمرُ لا فرار منه...



أنا آخذُ الصِّدق من أفواهِ المواقف والأفعال؛ لا من مجرَّد الادِّعاء والأقوال! فَـكَم من قول قد كذَّبه صريحُ الفعل، و كم من دعوى مَحاها موقف صعب! وإنَّ غاية الصِّدق فيمن تكلَّم بِـلِسانه و شهدت على قوله أفعاله -وهم قلَّة-.
فإنَّ من شِيم الأصَلاء الوضُوح والمُكاشَفة في كُلّ شيء، نعم في كُلّ شيء!!
خاصّةً في المواقِف والآراء، مع مُراعاة جانب الأدَب طبعًا أثناءَ ذَلك، 
وإن قُلت سبَق أهلُ الصّراحة بالرّاحة فلست مُغالياً ولا مُجانباً للصّواب أبدًا.
كما لا أوجلَ عندِي من مُتردّدٍ، ولا أخوف من مُتخاذِلٍ!
المقصُود= إذا أردت الإطمِئنان النّفسِي والهدُوء الدّاخِلي كُن صَريحًا بأدَب ولو كُنتَ من أهلِ الباطلِ عند غَيرِك.
ولا تنسى أنَّ تفسير حديث المتكلم علىٰ غير حقيقة مراده لونٌ من الزور، وبناء أحكامٍ وتفاسير عليها خيانةٌ بعينه!
وهذا لعمري أمرُّ و أنكىٰ من اقتصاص جزءٍ من كلامه وعرضه!
من الحقائق التي يجهلها أكثر الناس ما قرَّره الإمام المناوي: «فأكْثر ما يُدْخِل الموحِّدين النَّار مظالم العباد»!!!
وأنَّ سُمعة المرءِ أبلَغُ من كلامهِ، وسبحان من جعل الوجه ترجمان لِما في القلب، والأفعال بُرهان عمَّا فيه… رُويَ عن عثمان ‏رضي الله عنه:: (ما أسرَّ أحد سريرةً إلاَّ أظهرها الله على صفحات وجهه، وفلَتَات لسانه)
السرائر جمع سريرة وهي ما يكتمه الإنسان ويَسُرُّه.
والإسلام أرشد ودعا إلى إصلاح السرائر وتنقية القلوب وإحسان الظنون، ونهى عن خُبث السريرة.
وقد قال تعالى عن المنافقين: 
(وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ)
ثم قال: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)
و نقاء السريرة هو خُلقٌ و ممارسة و اتّباع… ليس مجرد جملة عابرة.
فــباطن الإنسان سيظهر على صفحاتِ وجههِ عاجلًا أم آجلًا،
من يحمل الخير وحُسن الظَّن وطيب القلب لن يفيض منه إلّا الجمال والحُب،
وحامل السوء مهما تقنّع وتصنّع لابُدَّ للداخل أن يفيض للخارج؛ 
فـملامح وجه المرء هي من انعكاس داخله على خارجه!
[إنَّما يُبِينُ عن الإنسانِ اللِّسان، وعن المودَّةِ العَيْنان!]
في قصة يُوسُف عرف صاحباه في السجن أنَّه {من المحسنين} لقوة إخلاصه لله حتى ظهر ذلك على وجهه و جوارحه! واللهِ ما اجتهد مجتهد في إخفاء عمله إلا أظهر الله حُسْنَ سريرته ولو بانكباب الناس عليه! وكأنَّ الملامحُ تشفُّ عمَّا غصَّت بهِ النِّيَّة!
في تفسير آية ﴿إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ الرَّحمنُ وُدًّا﴾ من سورة مريم؛ يقول السعدي:: أي: محبةً و وداداً في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في القلوب وِدٌّ تيسَّر لهم كثير من أمورهم و حصل لهم من الخيرات و الدعوات و الإرشاد و القبول و الإمامة ما حصل.


وصلتُ لِمَا وصلتُ عليه من عمرٍ وقوة مُتباينة بتباين عافيتي البدنية المرتبطة مباشرةً بعافيتي الروحية والأصل فيها التدنِّي… لكنِّي ما زلتُ كما أنا منذ طفولتي، أسعدُ بالحروف النقية الصادقة و أخاف من الصدِّ و لا أقبل النقد إلَّا ممن يعرف بواطني و مفاتحي -ولا يوجد أحد-. مازلتُ لِعمري هذا أُحبُّ العطور والورد بل أعشقهُما! أُحبُّ أن أُهدىٰ ولو وردةً في يومِ ميلادي هذا.. أُحبُّ الملابس المورَّدة و ورق الجدارن المُزيَّنة بطبعات الوروود، وأثاث المطبخ وأدواته، وفُرش البيت! أُحبُّ أن أعيش وسط حقل من الورود وأن أُحاط بهم… لا أملك سبباً لحبِّي الغريب للورد والزهر وطبيعة خالقي الرحمٰن بديع الأكوان ﷻ… لم أشتري لنفسي يوماً وردة رغم شدة اشتياقي و حبِّي له، فأنا أؤمن بأنَّ الورد لا يُشترى بل يُهدى، وفي الصورة التالية أجمل باقة وردٍ وصلتني.. جربتُ أن أشتري نبتة "تُنبتُ" لي ورداً، لكنها لم تتأقلم مع شرفة بيتنا ولم تنمو… أنا من جنيتُ على نفسي، وأغلقتُ الأبواب كلها وأحكمتُ غلقها بكل قسوة في كل وجه كان بإمكانه أن يكون باب سعادة و جبر بعد صبر… لم أفهم نفسي يوماً لِمَ أختار الحزن إنْ كان عاقبة واردة -قد تحدث أو لا تحدث- لسعادة عارمة؟ لِمَ أتوقع الأسوأ؟ لِمَ أسلك طريق "المشي بجانب الحائط"؟ لم كل هذا الخوف من المشاكل؟ من هذه الهشَّة التي تكتب؟ أنا لم أعد أعرفني.. وأعرفُ أنَّه ما من أحدٍ يقرأُ كلامي وإن وُجِد فلن يفهمني…


 [تسلُّط البعض لا يمكـن حـدوثه إلَّا عن طـريق جُـبنِ آخـرين!]

‏شهورٌ تمرُّ وأنا قلِقةٌ من توافه الأشياء حتى أعظمها، شهورٌ تمرُّ وأنا أُحاول -وحدي تماماً- بِشتَّى الطرق أن أهدأ ولكن هذا لا يحدث فأظلُّ أغرقُ في قلقي.. متى أنجو؟؟
فقدتُ رغبتي بقراءة الكُتب، بالكتابة وحتى البُكاء، لا أودّ التواصل مع أحدّ ولا أشعر بأيّ رغبةٍ في مُخالطة الناس، كما لا يهمُني بتاتاً أن يُساء فهمي، لا شيءَ سِوى النوم (بلا مُنوِّمات ومُهدِّئات) والاستيقاظ على أملِ أنّ تمضي هذهِ الأيام.. انصَرمَ عامٌ آخر، أُحصي ما مرَّ فيهِ على قلبِي من المَشقَّةِ والبلاء، فأَقول إنِّي قد كَبُرت و سَبقتُ بنات عُمرِي بسنوات طِوال إلَى مَا تكُونُ عليهِ العَجائزُ مِن حِكمَةٍ و ثَبات، و رزانَةٍ بعدَ شتَات.. يغلُبُ عليَّ مَا يُمليهِ عقلِي في أحايينِ الحُزن، فأنطِقُ بما أعجَبُ له، و أُعامِلُ النَّاس بمَا يحارُونَ فيه.. ثُمَّ أُقلِّبُ ناظِري في هذَا الفُؤادِ الرَّهيف، فإذَا هُو طِفلٌ يتعثَّرُ في الكَلماتِ الطِّوال، و يُخدَعُ بمَظاهِر الجَمال، و يُمنِّي نفسَهُ بالخَيال..
ثُمَّ أرفَعُ عَيني إلى المِرآة، فأَرى شابَّةً تتمثَّلُ عُمرَها، لا تزِيدِ عليهِ ولا تنقُصُ مِنه، عينَاها مرسُومَتانِ بالكُحلِ، محدُودَتانِ بِه كمَا تحُدُّ التَّقوَى جُموحَ الهَوى، يتدفَّقُ الحياءُ بوجنتَيهَا تدفُّقَ بعثاتِ الحُبِّ الأولَى فِي قلوبِ العَذَارى، أمَّا فمُها فقدْ أودِعَت فيهِ بسمَةٌ أهدَأُ من نسماتِ الفَجرِ، و حديثٌ أعذَبُ من غَمغماتِ الرُّضَّع.. تقِفُ صامِتةً، والأُنوثَةُ في قالَبِها تنطِقُ عنهَا.. وفي كُلِّ لحظَةٍ تجرِي عليّ، أتخيَّرُ لِي عُمراً مِن الثلاثَة.. كُلّ عامٍ وأنَا أُجاهِدُ لأكُونَ بخَير! 
مرت أعوام عديدة، والطفلة البريئة الخجولة ظلَّت هناك لم تتغيَّر قَطّ!
كل الَّذي حصل أنَّ الطفولة التي كانت تتبدَّى على ملامحها الظاهرية في صغرها و البراءة التي كانت تُنير قسمات وجهها، انسحبت حينما كبرت من بعض ملامحها الخارجية و توارت في داخلها، في روحها سكنت، فلقد ظَلَّت الطفلة هي هي لم تتغير! 


[إن أشد ما يحتاج إليه الإنسان كتف تسع رأسه، وقلب يسمع همسه، و أمل يهزم يأسه، و يوم يُنسيه أمسه، و عين يُبصر فيها أُنسه؛ إنَّ أشدَّ ما يحتاج إليه الإنسان إنسان يجد عنده نفسه.] قرأتها قديماً وكلما مررت عليها أخرى أشعر بذات الشعور أول مرة!! لست على ما يرام، أردت قولها بطرقٍ عديدة، ولم يشعر ولن يشعر بها أحد..




تعلَّمت -بقسوة للأسف- ألَّا أُحكِمُ قبضتي في الدنيا على شيء، و بخاصة البشر، لا أُحكِم قبضتي على إنسان كائناً من كان! غالباً لأجله وقليلاً لأجلي!
كلُّ من يعرفني -صدق المعرفة- يعرف أنَّه مُحررٌ تماماً مِمَّا قد يُلزِم به إنسانٌ إنساناً آخر من توابع صداقة أو لوازم مودة. إنْ أَحْسَنَ فأهلًا و حُبّاً؛ و لن أجحد إحسانه ما حييت -إنْ قدَّرني ربي- ، وإن كانت الأُخرى فالهجر الجميل واعتزال الأذى كافينا.. أنا أُحِب من يُبادر ولا يُضيّع فُرصة لرفع الحَرَج عن غيره، وإذا تحسس ثِقَلاً أو عملاً بغير طيبة نَفس خَفَّف ما يمكن تخفيفه، هذا الإنسان الذي يضع نفسه مكان غيره؛ جانبه آمن.. ولا أُبغض مِثل من وظيفته في الحياة وضع غيره في زاوية ضَيّقة و إحراجه و تتبُّع عثراته ولا أظنّ مِثل هذا ينجو!

تعلمتُ أنَّ كارهُك يرى الابتلاء عقوبة، و مُحبُّك يراه نعمة؛ و تلك واحدة من فوائد الابتلاء، إذ يستظهر ما كانت تُخفيه الصدور، و كنت تراه في العيون، و تشعر به في لحن القول، و درجة التقدير، لكنك تمنع نفسك من التيقّن امتثالاً لقوله تعالى: {إن بعض الظن إثم}.
إنَّ الإنسان يقضي عمره مُفارِقاً ومُفارَقاً، وتأخذ منه أيامه قدر ما تُعطيه و ربما جَارَت!
يُصبح في نعيم الوصل و يُمسي وَحْرِ الهجر جمرة تَفتُّ كبده!
و تلك المجالس التي طالما كانت محلاً للأنس ينطفئ ضياها!
و تستحيل المُسامرة الطويلة إلى طيوف ليس له منها إلاّ رجع الصدى و حديث الذكرى!
و يتحوَّل التَّرنُّم البديع إلى هديل و شجى، و يصبح لارتداد الضحكات على مسمعيه أنّة حزينة، و تصير الجذوة المشتعلة إلى رماد يُذر ذرّاً!
 و تخبو الشمعة التي طالما حاول مداراتها من نهب الرياح؛ "فأحبب من شئت فإنك مفارقه"… و ما لا يُحكَى يُبكى...

الخميس، 5 يناير 2023

صُبحُ لَيليَ الطويل ... و رُقية قلبي العليل ...

 صُبْحَ ليليَ الطويل، ورُقْيَةَ قلبيَ العليل، سلامٌ عليك..



"وصدرٍ أراحَ الليلُ عازبَ همِّه

                      تَضَاعفَ فيه الحزنُ من كلِّ جانبِ!" 


سبحان ربِّ البيانِ الذي علمَ الإنسانَ! 


إن الصدرَ يا نديمي كأنَّه بيتُ الهموم، وكأنَّ الليلَ راعٍ والهمومَ أنعامٌ سائمةٌ بالنهار يُرجِعُها راعيها "الليل" إلى مُراحِها.. ثم هي تنمو وتتضاعفُ.


ما الذي يجذبُ الهمومَ إلى مُراحِ الليل؟!

من الذي يَنبشُ في دفائنِ الصدرِ كلَّ ليلةٍ؟! 



أفتقده يا ربِّي وكم من أنينٍ أصابني مُنذُ الفراق..


مكونةً من ثلاثةِ أحرُفٍ ولكنها تلوي الذراعَ؛


فاءُ فناءِ الروح، والقافُ قتالاً مع النفس، والدالَ داءُ خبيثٌ مكثَ بهذا الجسم….


حينما أقولُ لأحدهُم لقد فقدتُ ذاكَ العزيز، فهذا كفيل بأن يشرح بُركان الوجع، شعورُ الوحدة بين الجميع، مكسور تجدُ نفسك في كُلِ حينٍ.


كأنِّي من دونهِ أصبحتُ كالجليد، مُكبَّلة دائماً مثل السجين، من يُعيد لي الماضي الجميل؟


تناثرت أوراقُ السعادة مني، ومال الغُصن عنِّي، وأنت هُناك بالبعدِ ما تراكَ عيني.


هأنا الآنِ أقولها لكَ إن كان سيصلكَ حرفي أنني أشتاقُ إليكَ وأنتَ تعلمُ كيفَ لوعةُ الشوقِ تفعل وتقضي، حريقًا اشتعلَ بي ومن يُطفئهُ إلّّاك؟!!


فسلامًا لكَ حتى مطلع الفجر وعظم الأجر لقلبي ولروحي…

.



أفتَقِدهُ يا الله…أفْتَقِدُ كلماته الحنونة المَليِئةِ بِالرِّقَّةِ وَالعُذُوبةِ التي تَسْرِيْ في دَاخِليْ كَبلسَمٍ شَافِي لِتُزيلَ بِدفْئِها كُلَ وَشْائِجِ أحزَاني.


أفْتَقِدُ نَبرةَ صُوتِهِ، حِنِيَّتَه، ضِحكَتهُ الرَنانةَ العَفَويةَ التي تُعِيدُ تَرتيِب فَوُضْا۽َ قَلبيْ.


أفْتَقِدُ شُعاعَ لُطفِ عيناهُ المُتَّقِدَ بِالأملِ الذيٰ يُنيرُ دَربي المُتشِحَ بِالسَّواد.

أفْتَقِدُ تَفَاصِيلهُ الصَغيِرة، طِيبةَ قَلبِهِ الذي لمْ يَتلوّّثْ بِسُوادِ الحَياة.

أتشوَّق نظرات الحُبِ في عِيناهُ المْمزُوجَةِ بِاللهْفَةِ والاشتياق.


ظمئتُ إلى لِقائِه واستطار فؤادي المُتيَّمُ بِحُبِه لرؤيتهِ.


حَياتِي أصبَحْت مُوحِشة، كيف لا وهو هي!


جُبلتُّ أن سأراه، وسَيبتلُ الجَفن، ويَنبتُ زهرٌ يُعوض عَن غِيابهِ.


تَمتدُ الأيام والغِياب يَنهشُ قَلبي!


والصَبر أَمضى كومضٍ في أَحداقي؛ فجعلتُ أَبكي.. أفتقدهُ يا الله ودُون غَيري لَن تَحفلَّ وجهتي بهِ بَعد الآن!!!


أفتقده والفقدُ مَزّق نياطي، وأشعل النَّار بِفؤادي..
آهٍ يا الله كم تاقت نفسي لأحاديثه الطويلة، عيناه البنيتان الكحيلتان وبشرتهُ السّمراءِ..
لم يستوعب قلبي خبر فُراقه؛ فبقىٰ عالقًا في آخر يوم رأته عينه ولمسته يديَّ..
أفتقدُ أحاديثه الصباحية؛ التي بغيابها غابت الشمسُ بداخلي..
أفتقدُه وكلما شدّني الحنينُ إليه، شرعتُ لأُبحرُ بين أمواجِ أحاديثه، وأغرقُ في كُلِ حرفٍ وكُلِ نبرة، وفي النهاية أجدني مرمية على شاطىء الوجع أبكيه بكلِ حسرة..

أفتقدُ نفسي المرحة والضحكات التي تُزين تقاسيم وجهي عندما أتحدثُ إليه، والخِفة التي أشعرُ بها عندما يُشعرني بأنِّي عالمه الوحيد!
أفتقدُ نبضات قلبّي المُتسارعة عندما أرى كلمة أُحبّكِ، وأفتقدُ لحن اسمي حِينما تُجملهُ مُوسيقىٰ صوته..
أفتقدهُ يا الله لكني صابرةٌ على وجع الفُقد؛ علَّه يرجعُ إليّ راميًا قميصَ عودته؛ فيردُ بِبُشرَىٰ عودتهِ النّورَ إلىٰ قلبّي

لعلي أثقلتُ عليك..


آهةٌ طويلةٌ، ونَفَسٌ حارّ..


أُحِسُّ أني أُواري تحتَ أضلُعي شبحًا أسودَ، ما يزال يَمنعُني ويُوهِنُ عزمي ويكفُّ مِن خطواتي، وما يزالُ يُوسوِسُ إليَّ بجملته القصيرة القاتلة: لِمَ تَتَعَنَّى! أليس الأمرُ سواءً؟!

تقتلني قَولَتَه، وتجعلني أيامًا طَريحًا لا يُدرَى ما بي!

وربُّك المجيرُ من نداءاتِ اليأسِ.


إن الأمرَ يا سلوةَ فؤادي ليسَ سواءً!


"فليسَ سواءً عالمٌ وجهولُ"!


وليس سواءً ساعٍ وَكَسولُ!


وليس سواءً باذلٌ وبخيلُ!


وليسَ سواءً صابرٌ وجَزُوعُ!


وليسَ سواءً ساكنٌ وهَلُوعُ!!


ليسَ كلُّ الناسِ سواءً، ولا درجاتهم واحدةً، فمنهم مُنحَطٌّ عن المعالي ومنهم مَرفوع!



وليس سواءً هانئٌ بوصالٍ ومُهَشَّمٌ بتباريحِ الشوقِ والفراق!!!


ونعوذ بالله مِن ضَغطةِ الإياس، على مكاظمِ الأنفاس….




هذا جانبُ مخيفٌ مِن جوانب الليل، لكنَّه إن كان كذلك تارةً، فإنه يكونُ تاراتٍ عُرسًا بهيجًا مُقمِرًا، تتلألأ فيه ألوانُ البشارة، وتتلاقى فيه أحاسنُ الأماني، وتتراقصُ بواكيرُ الآمال، ويجتمعُ فيه الشتيتان بعدما كانا "يظنانِ كلَّ الظنِّ ألّا تلاقيَا!"



وبالله حسنُ البلاغِ إلى محاسنِ الظنون..



دمْ بخيرٍ، ليلُك آنِسٌ بَهيج، ونهاركَ عَبِقُ الأَريجِ.


وسلامٌ عليك ما هبَّ نسيمُ الخريفِ اللطيف، الذي من أنفاسِك لَطُف، ومِن راحتَيك اغترَفْ… وآسفٌة إن أطلتُ عليك..



هُنا.. لا أيامَ أطويها، ولا أحلام أنساها، أُراقب عجلةِ الوقتِ تمضي مُنذ أربع سنواتٍ، وأرقب اللون البُرتقالي، علَّ يصير بستانًا، علَّ أصير أنا وتخضر أيامي..





أربع سنواتٍ تنفرطُ من حياتي، وتذرني هشيمٌ وريحٌ غاضبة تضرب المَرسى.
أربع سنواتٍ!


غزاني الشيب، وَوَهن العظم، وضعُف القلب، وازدادت كل الأوجاع وتاهت في الممراتِ آلامٌ وأجفانٌ، إلى أن صرتُ هأنذي، غريبة الوجهةِ، قليلة الحيلةِ، ضعيفة البنيان، خائرة القوى كليَّا!


لكنني في وسطِ كُلِّ هذه الغُربة، التي تلفحني وتقبضُ قلبي، أذكرك!


أتذكركَ منذ أن وعدت نفسي أن أكفّ عن العَد، وعيشَ إيماءاتِ الهواء، كأنها وردٌ وَجب عليَّ جَمعه، كي لا يَذبل، كي لا أذبل!


 أُكرمُ وفادتك في كل مرةٍ أرى الحُب في الفعلِ، كُلما لمحت ظلًا مؤنسًا، ويدًا حنون، وغصنًا أدركه الذبول…










لا أحولُ عن عهدك، وإن حالت النجوم من ممارِّها.


ولا أزول عن ودِّك، وإن زالت الجبال عن مقارها.


بيننا عِصَمٌ لا تنقض، وذمم لا ترفض.


لي قلبٌ قريح، حشوُه ودٌّ صحيح.


وكبدٌ دامية، كلُّها محبةٌ نامية.


مودتك شعارُ ضميري، ومخالصتك أغلبُ الأحوالِ على قلبي.






الأحد، 27 نوفمبر 2022

مَيَّز إسْلامُنا مُجتمعَنا بالتَّراحمِ والتَّلاحم لا بالتَّعاقد المادي!



كم هو مؤلم تناسي أو التخلِّي عن طبيعة مجتمعنا المُسلم!

فالمجتمع المُسلم هو مجتمع "تراحميلا تعاقدي ماديّ!


من زارني زُرته!

ومن أطعمني أطعمته!

ومن أهداني أهديته!

ومن واساني واسيته!

وهلُّمَّ جرا!








أيليق بأتباع أُمَّة محمد  أن تكون بمثل هذي الأخلاق الدنيئة المُفتقرة إلى المكارم والسُّمو و"الرَّحمة"!!!


ألم يقل نبيُّنا :: إنَّما بُعثتُ لِأُتمِّمَ مكارم الأخلاق!!


ألم يقل أيضاً :: [والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه]!!






وتأمل هذا الحديث:: [أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، 


و أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ ، 


أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً ، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا ، 


و لأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا ، 


و مَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، و مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ ، 


و لَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ ، 


و مَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ ، و إِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ]


قال ابن القيِّم في كتابه مدارج السالكين::


الدين كلُّه خُلُقْفَــمَن فاقَـكَ في الخُلق، فقد فاقَـك في الدين! -أي زاد عليك في الدين-



الإسلام بنى في نفوس الصحابة الكرام "التراحموجميع أئمته تخلَّق ودعا و أوطد هذا السلوك في النفوس المؤمنة.



رغم أنَّ الله كتب أجوراً عظيمة لتلاحم وتراحم المسلمين؛ إلَّا أن المرء التعيس الشَّقي اختار المادة الفانية وفضَّلها على أجر الله!!


لِمَ نغفل عن أنَّ كلَّ صفة تُعامل بها عِباد الله، يُعاملُك الله بها!!!






 





المُجتمع المُسلم التابع لأعظم قائد محمد  هو مجتمع متلاحم متراحم، لسنا مثل الغرب مجتمع متعاقد تابع للمصلحةوبالمناسبة هذا مايجعلنا أقدر الشعوب على تجاوز الأزمات!



فالغرب هو مجتمع متعاقد مع الحكومة، آمنٌ بها، فإن زالت أو سقطت سقط وضاع وهاج وأصبح كالحيوان الثائر لا يُوقفه شيء!


لكن تأمل مجتمعاتنا العربية بكلِّ ما حلَّ بها -رغم تخلِّينا عن جزء كبير جداً من قيم إسلامناإلَّا أنّّه مرت بنا حروب وأزمات ومازلنا صامدين مؤمنين!!


وستجد أعلى نسب الانتحار هي في الغرب المُفتقر للأخلاق السامية أو لنقل العقلية المُسلمة؛ رغم كون البلاد -ظاهرياًقوية ومستندة للقانون!


سبحان الله هلاك المرء دائماً في بُعده عن ربِّه وعن ما شرَّعه له… ونجاته وسعادته وهناؤه هو ملازمة ما أمره به واتِّباع شريعة نبيِّه  …


الاثنين، 8 أغسطس 2022

بالٌ عصيٌّ على النسيان


 يَمضي العُمر، وأنا أَمضي.. وشيئًا فشيئًا تُحرق قصة، يَذبل حلم.
 وهُناكَ في عُمق الوَريد يتفاقمُ حزنٌ مُغترب.
 أَرسمُ آفاقًا واسعةً نيرةً رُغم ما في الدُنيا من عداءٍ وكبتٍ، أُصارع التَناقض والتَواتر في أحداثٍ لا حيلةَ لِي في مُجابهتها إلا بالتوكلِ ورجاءٌ يُعانق القَلب الدافئ المُثقل بالخَيبات، 
بأن ياربُ أُنظرني..
 ولا أكلْ الوقوف على العَتبةِ بل أُقيمُ عزاءً خاصًا لكُلِّ أُنسٍ صُيِّر وحشة، 
وكُل حُلمٍ أصبح غَصة، وَأرمق كُل من خَاب سَعينا الدؤوب بسببهِ، وأُردد أن لا وُقوف!
بيدٍ رَسمتُ حُلمًا، وبالأُخرى لَوحت، 
ومَضيتُ أذرفُ وأستنزفُ الأَمل الذي أُقحمه في كُلِ عَثرة؛ 
لأن السيرَ طويل، والليالي مُحملة بِأمنياتِ مَن تَوسد الدُعاء، 
والفجرُ قَريبٌ؛ ولأن بَصيصًا يَلوحُ عن كل شروقٍ.. ولأجلِ ذا أنا أُحاول. وفي تِلكَ الأيامِ التي لا تَزدان بِها أي لحظةٍ ولا يَحوفها دفءٌ،
 بوجودٍ بَالٍ عصيٌّ على النِسيان. 
لَن تطوى تِلك الصفحات، سَتبقى تَسكبُ العَبرات،
 لكنني سأمضي ولو بنفسٍ مَصقولةٌ بالألم، مَلجومة الأمل.
 مُؤكدٌ أن الوجود تَغير، وما بقي مُجرد لَفحات.
 لكن يَقينًا؛ مَا مضى فات وأنقضى، 
والأحلام التي سُلبت مني لَيست إلا لأستفيق،
 ولا تَزال تعيقني الذِكريات بَيْدَ أن حُلمًا يُحلق في المَدى البعيد، مُنتظرًا صُبحًا وسعيًا من جديد.





الأربعاء، 18 مايو 2022

يا ضَيعة العُمر يمضي سَبَهْلَلا....

يمرُّ العمر ويبقى مطلبي الدائم الوحيد السَّكينة في كل شيءٍ أقصدُهُ؛ في المكان والرِّفقة.


ألَّا يمسَّني فزعٌ ولا شكٌّ ولا خَيْبة.


أن تغمر الطُّمأنينة قلبي و تَحُفَّه بالحماية.




ولكنّي أُغالبُ نفسي على مافيها مِن هوى السنينَ الطّويلة،


و قد تولّى مِن العُمر أكثرَ مما بقي،


و إنّي لأتلفّتُ مِن حوْلي، فَـأرى أطيافَ القديمِ تنبَعِثُ لي مِن كُلّ رُكنٍ وطريق،


ثُمّ أصحو على الجديد وقد تغيّر كُلّ شيء، ذهب زمانٌ و جاء زمانٌ آخر، فلا أدري .. أَأُنكِرُ ما أرى أم أُنكِرُ نفسي؟!!!







لكنِّي مازلت أجلس برضا تام، رضا النَّاجي في لحظات اندمال الجرح، بُروده، سُكونه..أعرف أنَّ رضاي هذا هو كل ما أمتلكه... أُناجيكَ يا خالقي دائماً في حوف روحي في جميع حالي وأحوالي أشكو عَجَلة أمري وحالَ قلبي؛أحدّثُك بما تعلمُه وبما أَكننتُه في صدري وأنت به عليمٌ؛أُخبرك أنّني مُعبّأةٌ بالدّموع التي لم أبكِها بعد، و مرّةً أتصبّر و مرّةً أجزعُ و أبكي، وحسبي أنّك تجزي المُتصبّرين بِصَبرِهم فأمسحُ ما انهال من الدّمع.
تعرف أنّني لستُ من البَكّائين في ساحتِك ولا من الذين وجدوا الأُنسَ عندك فاستوحشوا عن غيرك،
ولكنّني من الذين يرجون أن ينالوا لذائِذَ القرب منك وسرور مناجاتك حتّى تسكَن نارُ قلوبهم.
يا طيبَ اللّيالي التي أمسيتُ فيها مرتاحةَ البالِ! يا طيبَ هاتيكَ اللّيالي! 
أمسحُ دموعي قبلَ أن أنامَ وأقول لنفسي: 
إنْ لم تصبرْ نفسُكِ يا نور فصبّريها، يا نور، إنَّ الصّبر مطيّة لا تكبو فاصبري!
أعرفُ الصّبر وطريقَه وثوابَه، -سبحانكَ ﷻ - ولكنّني تعبتُ!


أدري بأنَّك قطعًا لن تضيَّعَني
                              لكِنْ تعبتُ.. وصبرِي كُلُّهُ انعدمَا!


عُبَيدُك يا مولاي؛ أدرِكه إنَّه وحيدٌ، فريدٌ، والزمانُ شديدُ.. 
باسمِكَ ربِّي، يا أرحم الراحمين يا أكرم الأكرمين يا إله العالمين،
يَا صانِعَ ما أريد، أنتَ تُريدُ، ويكونُ إذَا شئتَ ما أرَدت.
راحلتِي رِعدِيد، تمسُّها نكسَةُ العبدِ الخطَّاء، وقلبِي جُهدُه الحبْوُ إلى مُرتفَعِ المُجابين.
يا مُشَكِّلَ البُشرَياتِ من نُوركَ، أقفُ جائعَة، لا أريدُ مائدَةً من السَّماء، أتململ عاريَةً، لا أطلُبُ ثيَابَ سُندُس، عطْشَىٰ ولا أسألُكَ كسَفًا منَ السَّماء. 
هبْنِي اطمئْنَانَ مُضغتِي، وسأسْعَى.
هدْأةً بينَ ضِلعٍ وضِلع، لاَ وجعَةَ الخوفِ في تلافِيف المعدَة، ولا قشعريرَة الفزَع.
 سُبحانَك، أنتَ سوَّيتنِي في تقْويمِ حَسن، سَوِّ لي قلبًا ذَا أنَاة، يبَادلُ عبَادكَ إلْفًا بإلْف، وصلاً بِوصْل، حُبًّا بحُبّ، حتَّى إذَ قَلاَهُ النَّديم، ازدَادَ سِلمًا، كالعودِ يزيدُه الإحراقُ طيبًا. 
قلبًا يدومُ ساكنًا، لا يتلجلج مهمَا مخَضني الدَّهر، لأنَّك سوَّيتَهُ منكَ، يُحييهِ لُطفك، ويُطمئِنه بَشيرُك.

 


 



تعلَّمتُ أنَّ التعلُّق اختناق، والفِراق انكسار، واللِّقاء فرح، والاستغناء سعادة.

ونهاية الحياة يتيمة، وكلّ إنسان -وإنْ أبى- سَيَسير وحده في لحظات روحيَّة حرجة،

ولن يجد بِجِواره أحدًا، فَــمُجاورة الأجساد لا تُغني شيئًا، 

وإنَّما زوال الوحدة والغُربة بِــمجاورة الأرواح و قُربها، واتِّصالها الوثيق الذي لا يتقلَّب ولا يتغير.


إنَّها اللحظة الحاسمة التي أتبدّل فيها من شخص يكترث، 
إلى شخص لا يهمُّه سوى أن ينجو بنفسه ولو على حساب خسارة أعزّ أشيائه.


ادعوا لي في سِركم أن يدّنوا مِني المُراد، أن يفتح الله عليَّ فتوحُ العَارفين.


أيامٌ لإختبارِ نَفسي قَبل أي شيءٍ آخر.

آمل أَن أستطيع مَعِرفتي بَعد كُل ما قد جَرى،
والسنين التي ذُريت في مهبِ الرِيح،
أن أستريحَ لُفكرةِ أني مَا زلتُ أنا..

دؤوبة المُحاولة، غير مَلولة.

 يا ربّ دربٌ مُكلَّلُ بالتَوفيق، وعاقبةٌ حُسنى

الأحد، 12 ديسمبر 2021

حرمان الطفل من التكنولوجيا: أذى وشر؟؟ أم خير في حقه؟؟

كـعادتي دائماً ما أستلهُم الأفكار من مُعاشرتي للبشر، والحديث إليهم رغم ضيقي وضجري من الناس وحبي بأن أبقى في البيت ساكنة آمنة مُطمئنة.



سألتني إحداهُنّ عن تطبيقات الأطفال التي أُحمّلها لطفلتي ابنة الأربعة أعوام، أجبتها متعجبة وهل يوجد تطبيق للأطفال؟


لم تفهم هي مغزى سؤالي، فأجابتني بالطبع يوجد تطبيقات متعددة للأطفال، وكذلك يوجد متصفح مَعرفي خاص بهم!

قلت لها، لم تفهميني، ما عنيتُ بسؤالي:: هل الأطفال يستخدمون الهاتف أو أي وسيلة الكترونية برمجية سواء كانت للتصفح أو للعب؟!

استنكرت هي سؤالي، وطلبت مني الجِدِّية في الإجابة وختمت قولها بأنَّه لا يُوجد طفل في هذا العالم اليوم لا يستخدم الأجهزة الالكترونية بمُختلف أنواعها، ونحن الآباء في طفولتنا استخدمنا التلفاز!!

قلت لها:: بل يوجد يا عزيزتي، بالنسبة لي أنا، التلفاز كان مُقنَّن جداً جداً في طفولتي، كانت ساعات فراغي مَقضية إمَّا باللعب مع إخوتي أو بالدمّى الخاصة بي.




وبالنسبة لأطفالي -سبع سنوات وأربع سنوات- فــللَّه الحمدُ والفضل والمنَّة التلفاز مَهجور وغير مرغوب، والحاسوب المحمول نستخدمه عند النشاط المدرسي أو للبحث عن معلومة ما وجدناها في مكتبتنا الصغيرة، والهاتف هو لي وحدي أنا فقط، ولا يوجد جهاز لوحي.


صُدِمت ولم تستطع تصديقي، أخبرتها بأني لم أُنهي كلامي بعد، وأمسكت يديها، وأخذتها لأُريَّها بيئة أطفالي، التي أنشئتها على فترات طويلة متتابعة بحسب المقدرة والتوفّر.

هنا على هذه الأرفف الألعاب وغالبها ألعاب تنمية عقلية وفكرية، لا مجرد شخصيات وأصوات وبطاريات!

وهنا لوح أبيض للكتابة أو الرسم أو حتى الشخبطة أو للشرح أو للعب أو للحساب.

وهنا الخيمة، أو البيت الخاص بهم، ومكان لعبهم، مُحاط ومزيّن بدباديبهم المفضّلة، وأمام بيتهم لوح مُقوّس خشبي للتوازن أو التزحلق أو أي إبداع يطرق ببالهم.

وهنا مكتبتهم الصغيرة، تحوي قصصاً مصوّرة للصغيرة، وكتباً قيِّماً لأخوها الكبير، وهنا أوراق وهنا حافظة لأوراق ابداعهم، وهنا الأقلام والألوان، وهنا قسمهم المفضلّ جداً المجَّلات الشهرية وأشهرها "مجلة ماجد".

وهنا مكان تعلّم فنّ التسوق والتبضّع والحساب، أحدهم يجلس وهو البائع، والآخر يشتري.

أمَّا هنا؛ فهذا قسم الألعاب الجماعية العائلية، كألعاب الذكاء، وخارطة الدول، والأشكال اللانهائية التي يمكن تكوينها من سبع مثلثات مختلفة الأحجام، وهنا مجموعة من ألعاب الألغاز كـــتجميع صورة مُفكَّكة لقطع صغيرة، ولعبة إيجاد اللفظ المُطابق للصورة، الشطرنج وغيرها من ألعاب أجدادنا القديمة المحسوسة في زمانهم، وفي زماننا بكل أسى أصبحت مختصرة في تطبيق وكبس للأزرار.

وبالمناسبة؛ نصف هذه الألعاب هي مُهداة لهم في مُناسباتهم الخاصة، لأن من حولي يعلمون سياستي في الهدايا، أن يسألوني عما أحتاج وأريد.

لم أقبل إطلاقاً الألعاب التي تحتاج لبطاريات وهي عبارة عن أصوات وحركات!

ولم أقبل الألعاب التي لا تعمل بدون اتصال بالانترنت!

والحمدلله من حولي حفظوا رغبتي وأسلوبي وأحسنوا وأكرموا في هداياهم -جزاهم الرحمٰن عنِّي خير الجزاء-.

أعي أنّك قد تجدين هذا إسرافاً وتبذيراً وبطراً، لكن هذا ليس كذلك!



الله الكريم علم رغبتي في صنع طفولة جميلة لأطفالي، الله يعلم مدى تأثير ذكريات الطفولة على المرء بشكل كبير، ويعلم كم سألته العون والتسديد والتوفيق في سبيل إيجاد هذه البيئة لهم.

إن كنت سلَّمت أطفالي للتلفاز والهاتف واللوح الالكتروني منذ ولادتهم، فما هو الشيء المختلف الذي سيذكرونه عن طفولتهم خصوصاً أنَّهم حتماً ولا بُد سيحتاجون كل هذه الأجهزة مستقبلاً؟!

الطفولة تعني اللعب والمرح، وأساس الغرس في الطفولة هو اللعب بكامل الحواس وتنشيطها -لا تغفيلها وتركها مستسلمة لكل ما هبَّ ودبَّ على شبكة الانترنت-،

وعندما ينضج الإنسان تقلُّ رغبته وربما تنعدم في اللعب، ودائماً ما يُرمز للعب بأنه شيء خاص بالأطفال، فإن لم يلعب الأطفال في طفولتهم، فمتى إذن؟!

ثمّ إنَّ كمَّ الفساد العقلي والديني والفطري الذي يُقدّم للأطفال بخبث ودهاء في الألعاب والبرامج التلفزيونية والفديوهات لا يُحصى! أخبريني من سيكون المسؤول أمام الله عن هذه الجريمة؟ أولست أنا؟

لا أقوى على تحمّل هذا الذنب الشنيع، لا أقوى على إفساد الفطرة النقية، ولا أريد أن أُضيف لهذا العالم فرداً ممسوخاً ممحوا الهويّة، شخصاً تشبّع نظره وسمعه وقلبه بالفتن والمُحرّمات حتى أصبح لا يقتنع بل لا يُصدق بأنَّ ديننا قد حرَّم هذه الأشياء، والمصيبة اليوم أنّ كثيراً من أطفال اليوم من تشبّع بهذا القرف والفساد؛ حين يُصبحون شباباً، ويُصدقّون بأنَّ الدِّين حقاً وصدقاً قد حرَّم هذا وتلك؛ يُقرِّر أن يطعن في صحة الدين وحقيقته، وينساق تباعاً لنفس التسلسل الانهزامي السلبي القائم على تعطيل فطرة الإنسان وعقله وروحه؛ وجعل الإنسان مثل رجل آلي لا يقول إلا ما يُملى عليه، ولا يفعل إلَّا ما بُرمِج عليه…






وبالمناسبة، سابقاً كان الطفل يخرج مع ضوء الصباح حتى مغيب الشمس، وحين يُصبح شاباً يكون على قدر عال من المسؤولية والنضج، وتكون روحه سويّة.

اليوم في زماننا لم يعد مُتاحاً أن يلعب الطفل خارجاً، أصبح اليوم خروجه خارج المنزل مستحيل، فــقد يتعرض للخطف أو الأذى، عدا أنَّ السيارات لن تُتيح لهم اللعب واللهو والركض وغيرها من أنشطة الطفولة.

وقام الإنسان بتحديد الأماكن، فالنوادي للعب، والمباني التجارية للتبضُّع، وهكذا؛ وكما تعلمين نحن نذهب للنادي مرة أسبوعياً بأقل تقدير، لأن ها حق لهم، لأن هذا بالنسبة للطفل كالماء والغذاء؛ استنشاق الهواء، والبيئات المفتوحة، والإنطلاق كلها أساسيات لنمو الطفل سليمَ البدن والفكر والروح والقلب.

والله خالق البشرية فطر الطفل على اللعب، وهو عليم حكيم جعل التعلّم يُؤتي ثِماره باللعب، فمن نحن لُنلغي اللعب ونمنعهم منه؟!

أسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يُنير بصائرنا، وأن يُعيننا على طاعته ومَرضاته، وأن يجعلنا آباءً صالحين طيِّبين مُوحّدين، وأن يحفظ علينا وعلى ذريتنا أجمعين عقيدة الدين ومكارم الأخلاق والفِطَر السويّة.

مشاركة مميزة

ما الذي تفتقده البشرية يا تُرى؟