1-" إنَّه الملك "...
القلب أمير الجسد
وملك الأعضاء ، فهو راعيها الوحيد وقائدها ، وإنما الجوارح والحواس تبع له وآلات تصدع
بما تؤمر ، فلا تصدر أفعالها إلا عن أمره ، ولا يستعملها في غير ما يريد ، فهي تحت
سيطرته وقهره ، ومنه تكتسب الاستقامة أو الزيغ ، وبين القلب والأعضاء صلة عجيبة وتوافق
غريب بحيث تسري مخالفة كل منهما فورا إلى الآخر ، فإذا زاغ البصر فلأنَّه مأمور ، وإذا
كذب اللسان فما هو غير عبد مقهور ، وإذا سعت القدم إلى الحرام فسعي القلب أسبق ، لهذا
قال صلى الله عليه وسلم عن المصلي العابث في صلاته : « لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه
» ، وقال لمن يؤم من المصلين : « استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم » ، فأعمال الجوارح
ثمرة لأعمال القلب ، والخلاصة : القلب هو خط الدفاع الأول والأخير ، فإذا ضعف القلب
أو فسد أو استسلم انهارت الجوارح!!
وفي المقابل إذا
ذكر العبد ربه فلأنَّ القلب ذَكَر ، وإذا أطلق يده بالصدقة فلأنَّ القلب أذِن ، وإذا
بكت العين فلأن القلب أمر ، فالقلب مملي الكلام على اللسان إذا نطق ، وعلى اليد إذا
كتبت ، وعلى الأقدام إذا مشت ، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم للقلب حقه ومكانته
حتى وصفه بأنه : « مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله » ، وتوجه أول ما توجَّه إليه ليربّيه
ويهتم به ويزكِّيه.
فكل الأفعال مردها
إلى القلب وانبعاثها من القلب ، وكل الأفعال تعني كل الأفعال ولو كانت لبس ثيابك وزينة
بدنك!! وهذا ما أدركه مستودع القرآن الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه
فقال : " لا يشبه الزيُّ الزِّيَّ حتى تشبه القلوب القلوب " .
هدف الحبيب الأول
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :
« إنما نزل أول
ما نزل منه (القرآن) سورة من المُفصَّل فيها ذكر الجنَّة والنار ، حتى إذا ثاب الناس
إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء : لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع
الخمر أبدا ، ولو نزل : لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا » .
فقد حرَّم الله
الخمر في العام الثاني من الهجرة أي بعد البعثة بخمسة عشر سنة ، وفرض الزكاة في العام
الثاني من الهجرة كذلك ، وفرض الحجاب في العام السادس من الهجرة بعد تسع عشرة سنة من
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي كلها تكليفات تأخَّر نزولها حتى زكَّى القلب ولَاَنَ
وتمكَّن منه الحق واستبان.
ولشرف القلب جعله
الله أداة التَّعرف عليه ووسيلة الاهتداء إليه ، بل إذا غضب الله على عبد كان أقصى
عقوبة يُنزلها به أن يحول بينه وبين قلبه ، وحيلولته هي أن يحرمه من معرفته وقربه ،
لذا كان الاهتمام به تعبير عن الاهتمام بالأهم عن المهم وبالأصل عن الفرع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق