الأربعاء، 23 يناير 2013

أهميَّة القلب ...4


4-" موضع نظر الله "



 

من القلوب قلب كقبور الموتى ظاهرها الزرع والورد وباطنها الجيف والموت ، أو كَبَيْتٍ مظلم على سطحه سراج وباطنه ظلام ، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في هذا : « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم » .

 إنها حياة القلب وإن كانت البطون خاوية والثياب بالية ، وقد أبان الحديث أن القلب هو موضع نظر الرب ، فلا عبرة إذن بحسن الظاهر مع خبث الباطن ، فاعجب ممن يعتني بمظهره وهندامه الَّذي هو محل نظر الخلق ؛ فيغسل ثوبه ويعطِّره ، وينظِّف بدنه ويطهِّره ، ويتزيَّن بما أمكن ، لئلا يطَّلع مخلوق على عيب فيه ، ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق ؛ فيُطهِّره ويزيِّنه لئلا يطلع ربه منه على دنس أو خبث أو أحد غيره.

ومعنى آخر من الحديث قاله "ابن الجزري" :

 " النَّظَر ها هنا الاخْتِيار والرحمة والعَطْف لأنَّ النظر في الشاهد دليلُ المحبَّة ، وتَرْك النظر دليل البُغْض والكراهة " .

 
وتأمَّل ما يلي لتعلم أهمية القلب :

إنَّ العمل قد يكون ظاهره العصيان وصاحبه مُثاب ، كأن يقوم الرَّجل بفعل مُخطئٍ دون قصد وفي داخله لم يكن ناوٍ على هذا  ، وفي المقابل قد يكون ظاهر العمل الإحسان وصاحبه في النار ، كأن يُقتل المرء في ساحة قتال ليتغنى الناس بشجاعته ، ويُنفق ماله في طرق الخير ليُثني الناس على كرمه ، ويقرأ القرآن ليلفت إليه أعناق الغير ، والقلب في كل هذه الأحوال واقف وحده في قفص الاتِّهام أو مُسجَّل بأزهى الحروف في لوحة الشرف.


"مذنب وبرئ!! "

تأمل قول النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : « إذا عُمِلَت الخطيئة في الأرض كان من شهِدها ؛ فكرِهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها » .

سبحان الله! غائبٌ عن ساحة الجريمة لكنه أول المتهمين واسمه في سجل المذنبين ، وآخر حضر الجريمة بنفسه ورآها بعينه ومع ذلك يأتي الحكم له بالبراءة!! والسبب في ذلك كله القلب الذي أنكر فسلِم أو رضي فأثم.

وفي الحديث بشارة ونذارة ؛ بشارة لمن اضطر إلى حضور مجلس يُعصى الله فيه ولم يستطع أن ينكره بيده أو بلسانه بل ولم يقدر حتى على مغادرة المكان ؛ فيقوم القلب بالواجب وينبري للإنكار ، ونذارة لرجل أراد الله له الخير فأبى لنفسه إلا الشر ، وعصمه من المنكرات فأبى إلا التلطخ بها ، وصرف جسده عن مكان الإثم فسافر إليه بقلبه وروحه فعوقب بمساواته مع مرتكب الجرم.

إنه القلب حين يزني!! نعم يزني ، ومع شدة وقع هذه الكلمة على النفس إلا أن الذي أطلقها هو من وصفه ربه أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، ومن رحمته ورأفته بأمّته تحذيره الصريح لها بقوله : « وزنا القلب : التمني » . قال الشيخ "أحمد عبد الرحمن البنا ": " زنا القلب التمني : أي يهوى وقوع ما تحبه النفس من الشهوة " .

إن للقلب كسباً ؛ كَكَسْبِ الجوارح وعملاً كعملها ، والله سبحانه أعلن أنه يؤاخذ على كسب القلب ثوابًا وعقاباً ، فقال سبحانه : ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [ البقرة : 225 ].

ويشهد لعمل القلب هذا وأن الله يحاسب العبد عليه حديث :

« إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فقتل أحدهما صاحبه ، فالقاتل والمقتول في النار ». قيل : يا رسول الله!! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : « إنه كان حريصا على قتل صاحبه » .
فدخل هذا المسلم النار بشيء وقر في قلبه وهلك بسبب عمل قلبي ؛ ليس غير.

الظاهر والباطن!!

نعم .. صورة القلب هي الأصل ، فإن وافق الظاهر الباطن كان ما في القلب حقيقيَّاً ، وإن خالف الظاهر الباطن كان ما في القلب مزيَّفاً ، وعلى القلب أيضا يتوقف صحة الظاهر أي قبوله عند الله ، أما الناس فإنهم مُكلَّفون بقبول الظاهر فحسب والحكم على أساسه والله يتولى السرائر ، ومن هنا كان مقصد الشهادتين هو توجيه رسالة ملموسة إلى الناس بإسلام الناطق بها ، في حين أن الله وحده هو المطلع على غير الملموس من محتوى الباطن ، وقد نطقت ألسنة المنافقين بالشهادتين ، فعصمت دماءهم في الدنيا ، لكن مستقرهم في النهاية هو الدرك الأسفل من النار بما حوت قلوبهم.

واسمعوا إلى ارتباط الظاهر بالباطن في قوله تعالى : ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾ [ آل عمران : 31 ] ، فإن حب الله في القلب يورث اتباع الجوارح ولا بد ؛ وإلا كان ادعاء وكذباً وزوراً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

ما الذي تفتقده البشرية يا تُرى؟