4-" موضع نظر الله "
من القلوب قلب
كقبور الموتى ظاهرها الزرع والورد وباطنها الجيف والموت ، أو كَبَيْتٍ مظلم على سطحه سراج
وباطنه ظلام ، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في هذا : « إن الله لا ينظر إلى صوركم
وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم » .
إنها حياة القلب وإن كانت البطون خاوية والثياب بالية
، وقد أبان الحديث أن القلب هو موضع نظر الرب ، فلا عبرة إذن بحسن الظاهر مع خبث الباطن
، فاعجب ممن يعتني بمظهره وهندامه الَّذي هو محل نظر الخلق ؛ فيغسل ثوبه ويعطِّره ، وينظِّف
بدنه ويطهِّره ، ويتزيَّن بما أمكن ، لئلا يطَّلع مخلوق على عيب فيه ، ولا يهتم بقلبه
الذي هو محل نظر الخالق ؛ فيُطهِّره ويزيِّنه لئلا يطلع ربه منه على دنس أو خبث أو أحد
غيره.
ومعنى آخر من الحديث
قاله "ابن الجزري" :
" النَّظَر ها هنا الاخْتِيار والرحمة والعَطْف
لأنَّ النظر في الشاهد دليلُ المحبَّة ، وتَرْك النظر دليل البُغْض والكراهة
" .
إنَّ العمل قد يكون
ظاهره العصيان وصاحبه مُثاب ، كأن يقوم الرَّجل بفعل مُخطئٍ دون قصد وفي داخله لم يكن ناوٍ على هذا ، وفي المقابل قد يكون ظاهر العمل الإحسان وصاحبه في النار
، كأن يُقتل المرء في ساحة قتال ليتغنى الناس بشجاعته ، ويُنفق ماله في طرق الخير ليُثني
الناس على كرمه ، ويقرأ القرآن ليلفت إليه أعناق الغير ، والقلب في كل هذه الأحوال
واقف وحده في قفص الاتِّهام أو مُسجَّل بأزهى الحروف في لوحة الشرف.
تأمل قول النبيُّ
صلَّى الله عليه وسلَّم : « إذا عُمِلَت الخطيئة في الأرض كان من شهِدها ؛ فكرِهها كمن
غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها » .
سبحان الله! غائبٌ
عن ساحة الجريمة لكنه أول المتهمين واسمه في سجل المذنبين ، وآخر حضر الجريمة بنفسه
ورآها بعينه ومع ذلك يأتي الحكم له بالبراءة!! والسبب في ذلك كله القلب الذي أنكر فسلِم
أو رضي فأثم.
وفي الحديث بشارة
ونذارة ؛ بشارة لمن اضطر إلى حضور مجلس يُعصى الله فيه ولم يستطع أن ينكره بيده أو
بلسانه بل ولم يقدر حتى على مغادرة المكان ؛ فيقوم القلب بالواجب وينبري للإنكار ،
ونذارة لرجل أراد الله له الخير فأبى لنفسه إلا الشر ، وعصمه من المنكرات فأبى إلا
التلطخ بها ، وصرف جسده عن مكان الإثم فسافر إليه بقلبه وروحه فعوقب بمساواته مع مرتكب
الجرم.
إنه القلب حين
يزني!! نعم يزني ، ومع شدة وقع هذه الكلمة على النفس إلا أن الذي أطلقها هو من وصفه
ربه أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، ومن رحمته ورأفته بأمّته تحذيره الصريح لها بقوله :
« وزنا القلب : التمني » . قال الشيخ "أحمد عبد الرحمن البنا ": " زنا القلب التمني
: أي يهوى وقوع ما تحبه النفس من الشهوة " .
إن للقلب كسباً ؛
كَكَسْبِ الجوارح وعملاً كعملها ، والله سبحانه أعلن أنه يؤاخذ على كسب القلب ثوابًا وعقاباً
، فقال سبحانه : ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [ البقرة
: 225 ].
ويشهد لعمل القلب
هذا وأن الله يحاسب العبد عليه حديث :
« إذا التقى المسلمان
بسيفيهما ، فقتل أحدهما صاحبه ، فالقاتل والمقتول في النار ». قيل : يا رسول الله!!
هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : « إنه كان حريصا على قتل صاحبه » .
فدخل هذا المسلم
النار بشيء وقر في قلبه وهلك بسبب عمل قلبي ؛ ليس غير.
الظاهر والباطن!!
نعم .. صورة القلب
هي الأصل ، فإن وافق الظاهر الباطن كان ما في القلب حقيقيَّاً ، وإن خالف الظاهر الباطن
كان ما في القلب مزيَّفاً ، وعلى القلب أيضا يتوقف صحة الظاهر أي قبوله عند الله ، أما
الناس فإنهم مُكلَّفون بقبول الظاهر فحسب والحكم على أساسه والله يتولى السرائر ، ومن
هنا كان مقصد الشهادتين هو توجيه رسالة ملموسة إلى الناس بإسلام الناطق بها ، في حين
أن الله وحده هو المطلع على غير الملموس من محتوى الباطن ، وقد نطقت ألسنة المنافقين
بالشهادتين ، فعصمت دماءهم في الدنيا ، لكن مستقرهم في النهاية هو الدرك الأسفل من
النار بما حوت قلوبهم.
واسمعوا إلى ارتباط
الظاهر بالباطن في قوله تعالى : ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
﴾ [ آل عمران : 31 ] ، فإن حب الله في القلب يورث اتباع الجوارح ولا بد ؛ وإلا كان
ادعاء وكذباً وزوراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق